10 - 05 - 2025

رشقة أفكار | أربعون عاما على إعدام كاتب على الهواء!

رشقة أفكار | أربعون عاما على إعدام كاتب على الهواء!

-أربعون عامًا تمضي هذا الشهر علي انفجار هذه المعركة !

- معركة اغتيال -معنوي - لكاتب مصري ..بشكل علني بلسان رئيس دولة "معندوش يا امه ارحميني"! ونفس العدد من السنوات يمر  على  صدور كتاب شهير لنفس المؤلف (الذي يعدم على الهواء)، وعنوانه  "فقر الفكر وفكر الفقر" ، الصادر في اغسطس ١٩٨٤. مثلما بقىَّ  كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"  علامة من علامات فكر طه حسين منذ بداية القرن الماضي وحتي اليوم .. وظل كتاب "تجديد الفكر العربي"  علامة من علامات التفكير العقلي عند الدكتور زكي نجيب محمود ، وظلت رائعتا توفيق الحكيم بنك القلق (مسرحية) ، وأولاد حارتنا (رواية) لنجيب محفوظ من معالم كتابتهما الإبداعية  حتي اليوم .. فإن "فقر الفكر وفكر الفقر" يعد من أهم الكتابات في مسيرة الدكتور يوسف ادريس .. الكاتب الفنان وأشهر كتاب القصة القصيرة في العالم العربي . مضت أربعون عاما على صدوره  - وهو مجموعة من أهم مقالاته  في الحياة والسياسة و المقاومة والادب ، وحتى في طريقة  تفكير وحياة الانسان المصري - وربما العربي - ومع هذا فإن  كل سطر فيه مازال يصلح للتعبير عن واقع الحال  في هذا الزمن ! لم يتجاوز الزمن أفكار الكتاب .."ماقدمتش"  ..لو اشتريتموه اليوم ستجدون كل أفكاره طازجة وصالحة للحوار ،  والأفكار قابلة للنقاش والطرح .

-أربعون عامًا مضت على تلك العملية !

-عملية حسني مبارك لاغتيال الأديب  يوسف ادريس ، اثناء الاحتفال بعيد العمال أول مايو ١٩٨٣. يومها ذهب الرئيس إلى مقر مجلس الشعب ( كان اسمه مجلس الأمة ، لكن  السادات الذي انحني أمام تمثال عبد الناصر وهو يدخل مقره لأول مرة رئيسا  للجمهورية بالإنابة - بعد وفاة الريس جمال ، الذي كان السادات يناديه بالمعلم - قام بتغيير الاسم بعد ذلك إلى مجلس الشعب، مثلما غير كل شيء في مصر ، حتي أنهم قالوا أنه سار على انجازات عبد الناصر ومسحها كلها بأستيكه!)

- في ذلك اليوم البعيد .. الأول من مايو عام ١٩٨٣كان لايزال عندنا بيت للعائلة في طحانوب مركز شبين القناطر (قليوبية) وكانت للبيت فراندة على الشارع ،تملؤها عدة كنبات من الخشب ، كان ابي وأمي - رحمهما الله - يجلسان متجاورين، يتمتعان بيوم اجازة عيد العمال ،  وبينما كانت امي تستمع بتناول كوب من الشاي، كنت أغالب انفعالاتي كلها ،عندما فتح مبارك نار كلماته الهائجة متهمًا  يوسف ادريس بانه باع ضميره بخمسة آلاف دولار فقط ، منحها له العقيد معمر القذافي ، ليكتب مشككا في  حرب أكتوبر ، ويصفها بأنها تمثيلية متفق عليها مع الأمريكان .وشاع بعد ذلك مقولة أنها كانت حرب تحريك وليست حرب تحرير .

الصورة التي رسمها يوسف ادريس لنفسه في كتابه ، ونظرات ابنه إليه بعد عودته من المدرسة ، توحي بكم المرارة التي خلفها مبارك في قلب نجل يوسف، نظرات زملائه المتلاحقة الغاضبة المتسائلة إليه ، بكل مافيها من وجع ومرارة وسخرية واستهزاء ، وربما اجتراء على والده ..هي نفس الصورة التي ارتسمت لعيني ، وانا اتابع قصف مبارك في التليفزيون ليوسف ادريس. وكأنني لست ابن هذين الأبوين اللذين يجلسان أمامي ، بل أنا ابن يوسف ادريس الذي تجري عملية اغتياله! نفس مشهد الذي رسمه يوسف لنفسه مع إبنه ، هو نفسه المشهد الذي تخيلتني فيه وانا ابن يوسف ادريس ! ورغم أن يوسف اشار للمشهد فقط وإلى نظرات ابنه إليه في مرارة ، إلا أنه لم يكشف في سطور كتابه ماذا قال لابنه ، أما أنا فليس حبًا في شخص يوسف ادريس  وانما كرها في مشاهد مماثلة بالنسبة للكتاب والادباء والمفكرين ، تأكدت من مساراتي في قادم الأيام ..لا أتعاطف أبدا مع سلطة تحاول أن تقمع الكاتب أو الأديب . أي سلطة حتى لو كنت أقدرها. الذي فعله مبارك في هذا اليوم كان ذبح يوسف ادريس .. ذبحه من الوريد إلى الوريد.. وإذا كنت أنا "اتهزيت" من داخلي بعنف وبقسوة وأنا أسمع دوي قصف مبارك لجبهة يوسف، فمابالنا بمشاعر الإبن والأب نفسهما! اغتيال على الهواء وبدم بارد .. يبدأ على وقع لحظة تصفيق طويلة ، يطلقها من يعرفون بنواب المجلس، يعقبها اتهامات مريرة ، تنتهي على وقع صفقة طويلة أخري .. لا بل هذه المرة .. هذا المنافق القابع في اخر مقاعد المجلس ليسأل الريس تحديدا، مع كل حلول للأول من مايو .. وحلول الاحتفال بعيد العمال :المنحة ياريس .. المنحة ياريس "!

ذبح مبارك يوسف ادريس، في يوم الاحتفال بعيد العمال! المنحة التي كان مبارك يسأل وزراء ماليته ان يدبروها له باقصي سرعة، وأقصي امكانية كانت رغم انها تؤرقه وتؤرقهم ، لكنها كان يغدو سعيدًا ملء شدقيه وهذا الرجل القابع في الصفوف الأخيرة يسأله: المنحة ياريس!

المنحة - على ضآلة أعداد جنيهاتها لكثير من العاملين بالدولة - كانت منحة حقيقية بنقود ذلك الزمان ، فرغم انخفاض الجنيه وقتها، إلا أن سعر الجنيه مقابل الدولار يبلغ  ٨٤ قرشًا.. وكل جنية منها - متوسطها ٣٠ جنيه تقريبًا بحد اقصي مائة جنيه حسبما أذكر - كانت كفيلة بإسعاد كثير من الأسر .. فالأسعار أيامها كانت معقولة جدا، وعدا اللحوم كان كل شيء في المتناول ، وليس في بشاعة أحوال هذه الأيام ! كان الناس ينتظرون انتهاء خطاب الرئيس ليسمعوا جملة الرجل إياه (بتاع المنحة ياريس) ثم يرقصون بعدها على وقع إعلان المبلغ الذي سيتم صرفه  .تجاهلوا أنهم يرقصون على جثة أديبهم الكبير الذي امتعهم كثيرًا بأدبه وفنه ( بيت من لحم -ارخص ليالي- الحرام -المخططين -البهلوان - الفرافير وغيرها ) لا أظن أن كثيرين في المدن والأرياف انتبهوا لهذا الاغتيال العلني لأحد الكتاب.

الكتاب الذي بقي أربعين عاما وسيبقي مثلها، كان يتحدث عن الصمت العربي إزاء مجازر اسرائيل في لبنان ، الصمت الدامي الذي اعتاد العدو عليه ، فمضي يعربد كل هذه السنوات، فيضرب في الجنوب ، ويضرب في جنين وفي شاتيلا وفي قانا وفي القدس الشرقية والضفة الغربية .. في كل مكان والخزي يلاحق العرب ، الذين يستغيثون بالأميركيين، في حين ان الأسلحة الحديثة التي تقتلهم صناعة اميركية !

ما أشبه الليلة بالبارحة .. مازالت اسرائيل تعربد في غزة وفي لبنان ، وهي تمارس اعمال الجزارة والتدمير في كل مكان من غزة ورفح  الى الضاحية الجنوبية ، ورموزا لبنانية في قلب لبنان، ورموزا فلسطينية في إيران !

العالم  كان متعاطفًا مع العدو الاسرائيلي في بداية عملية طوفان الاقصي ، إلا أن التحول الكبير حدث بنسبة هائلة لصالح التعاطف مع غزة المدمرة وأهلها الذين فتك بهم العدوان.

ينتقل يوسف ادريس في كتابه من الحديث عن المقاومة إلى الحديث عن حرب أكتوبر .. او بالأحرى عن يوم اعدامه العلني على الهواء في مجلس الشعب فيقول :

أعتقد أن القراء يذكرون الحملة الضارية التي قامت ضدي حين كتبت المقالات السبع تحت عنوان البحث عن السادات، تلك الحملة التي بدأت بكذبة دنيئة ، من أنني قلت عن حرب أكتوبر  في ذلك الكتاب بأنها كانت تمثيلية متفق عليها، والتي انتهت حينما وقف السيد رئيس الجمهورية يهاجمني في خطبة أول مايو ٨٣ المشهورة ، وقد آثرت أن اضيف لهذا الكتاب بعض الوثائق الخاصة بهذا الموضوع ، ليس دفاعًا عن النفس وانما مجرد إثبات لأحداث وقعت ومؤامرة  قامت ضدي وبنجاح شديد .

البداية الحقيقية كانت أوائل يونيو ١٩٨٢ حينما اجتاحت جيوش اسرائيل لبنان تضرب وتذبح وتحرق وتنسف وتقتل المدنيين والعسكريين ، الأطفال والنساء والشيوخ ويتوج الأمر بمذابح صبرا وشاتيلا في النهاية .

كان غزو لبنان نقطة تحول كبرى في تفكيري. ذلك أني كنت أعتقد أن الضرر الذي حدث من كامب ديفيد، كان مقصورا إلى ذلك الحين على منع مصر عن شقيقاتها العربيات وربط مصر ربطًا محكما بالاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية للسيطرة على المنطقة.

ولكن غزو لبنان أكد لى  الشعور بأن كامب ديفيد لم تك إلا البداية الحقيقية لفترة طويلة قادمة من السيطرة الإسرائيلية المدعومة والمسنودة تماما من الولايات المتحدة .

لم يكن يوسف ادريس يتصور أن يقوده البحث في غزو لبنان إلى كل ما اكتشفه عن وجود جسر كامل واصل من الضفة الشرقية إلى الغربية  للقناة، تبين له أنه قادر على حمل المدرعات والأسلحة وأنه جسر حديث البناء واستغرق بناؤه أكثر من عام ، على عكس ما يقال ، وهنا بدأت تساؤلاته .. أو جريمته التي أعدم علنا بسببها .. ماهذا الجسر وكيف عبرنا خط بارليف في وجوده ؟!

وللآن  لا يزال الاقتراب الجاد الخطير، والتقييم العلمي، وبالضبط كنه ثورة ٢٣ يوليو ومسائل  أكبر كالعدوان الثلاثي وهزيمة ٦٧ وثغرة الدفرسوار وحقيقة الدوران للخلف الذي حدث عام ١٩٧١ كل تلك المواضيع الكبري في حياتنا لم تناقش بعد…..

ومن هنا تأتي قيمة الكتاب ..فحتي الآن لم تناقش هذه المواضيع الكبرى  نقاشًا مستفيضًا.. ويوم ناقشها أو حاول  يوسف ادريس دفع الثمن .. اغتيالًا علنيًا على الهواء!
-----------------------------
بقلم: محمود الشربيني


مقالات اخرى للكاتب

رشقة أفكار | فوز البلشي .. هل اغتال أحلام صحفيين أم دمر سلم عبد المحسن في الترقي؟